بالرغم من أن الرئيس بوتفليقة لم يعلن رسميا عن احتمال ترشحه لعهدة ثالثة إلا أن وصفه الأحزاب والمنظمات التي طالبته بالترشح بأنها »دليل على النضج السياسي الذي لا يسعني إلا أن أرحب به«، يكشف عن رغبته في ذلك، وتأكيده على أن انسحاب الجيش من الحياة السياسية مرهون ب »إرساء مؤسسات قوية« رسالة واضحة ل »أصحاب القرار« حول »ضمانات الاستفتاء على الدستور الجديد«، و»تعهدات العهدة الثالثة«؟
فمن يقف وراء »لغز الدستور« المُعد سلفا؟
سياسة »المهماز«!
عندما تنهار القيم في نظام الحكم تتحول الممارسة السياسية إلى »نصب واحتيال« ويصير المجتمع المدني »سلطة ابتزاز«، وتصبح »الوطنية والإسلام والديمقراطية« مجرد شعارات يتخلى فيها أصحابها عن برامجهم ومواقفهم، ويرتدون »برنوس« »الأولياء والزوايا« ويعودون إلى »بيت الطاعة« »لعل وعسى« أن يتذكرهم »رب هذا البيت« وتبدأ »سياسة المهماز« فترتفع الأصوات لإثارة »الضجيج السياسي«، وإيهام الرأي العام بأن هناك شخصا واحدا ووحيدا قادر على إخراج البلاد من الأزمة، لتراوح مكانها.من منا لا يتذكر كيف كانت تسير »تاقارة« أعضاء المجلس الانتقالي في »عهد زروال« الذي يصر على أن يكون بوتفليقة رئيسه أثناء نقله من بيته إلى »تاقارة«، وكيف شاءت الصدفة أن يصبح هو رئيسا ثم يقلص عهدته من أجل بوتفليقة.
واليوم يعارض ترشحه لعهدة ثالثة أو هكذا نسبت إليه إحدى الصحف ذلك.ومع ذلك يبقى زروال الرئيس الوحيد الذي فضّل الاعتزال السياسي وإحداث قطيعة مع النظام القائم.ومثلما تمت تصفية المعارضة ممثلة في مهري وآيت أحمد، في عهد اليامين زروال، تمت تصفية المعارضة، بكل تشكيلاتها في عهدتي الرئيس بوتفليقة.
وبالرغم من أنه كان يأمل في وجود تشكيلتين كبيرتين إلا أنه عاد إلى منطق »الأكثرية« من المنظمات والأحزاب والشخصيات التي اعتمدتها »تاقارة« في »عهد زروال« لغلق الباب أمام من سمّاهم سعيد سعدي عام 1991 ب »الديناصورات الحزبية«.المؤكد أن سياسة أصحاب القرار بعد عام 1994 هي نفسها السياسة المنتهجة اليوم، يكفي أن من شاركوا في »دستور اليامين زروال« عام 1996 اعتبروه اليوم »وثيقة غير دستورية« وهم الذين شاركوا في الوثيقة التي رفعتها جبهة التحرير إلى الرئيس، والتي قال عنها أحد أعضاء الحكومة الحالية بأنه لا يعرف مغزاها، إلى رئيس الحكومة الحالي.وبالرغم من أن رئيس الحكومة يدرك جيدا أن »دستور بوتفليقة« تم تحضيره في لجان »إصلاح الدولة« التي شكلها في عهدته الأولى، إلا أنه أراد أن يزايد على حليفيه في »التحالف الرئاسي وهما أحمد أويحي وأبو جرة سلطاني، بوثيقة »لا تعني بوتفليقة« في شيء.من حق الرئيس أن يدير »الأحزاب والمنظمات« بالمهماز، لأنها تخلت عن برامجها، وخلعت عنها مقومات وجودها كأحزاب وكتنظيمات.أوليس من السخرية أن تُحجَّم ثورتنا العظيمة بأن نقيس أبناء شهدائنا بأبناء »الانقلابيين« أو المقاومة أو الانتفاضات في إفريقيا والوطن العربي، حين تنشئ »منظمة« للابتزاز السياسي. لنفرض جدلا أنها تدافع عن قيم التحرر العربي والإفريقي، فهل يعقل أن تقبل منظمة صهيونية إعطاء جائزة لرئيس يدافع عن هذه القيم؟
أحاديث الكواليس؟!
لم تعد الشخصيات الوطنية قادرة على فهم ما يجري في الجزائر، فالغموض الذي تسيّر به أجهزة الدولة، بدأ يثير الكثير من الجدل، في أحاديث الكواليس.لا يوجد تفاؤل بمستقبل البلاد لدى معظم الأسماء الكبيرة في الجزائر، أمثال علي كافي، اليامين زروال، أحمد طالب الإبراهيمي، مولود حمروش، أحمد بن بيتور، عبد الحميد مهري، آيت أحمد، علي بن فليس، مقداد سيفي، سيد أحمد غزالي، عبد الله جاب الله، سعيد سعدي وغيرهم.وإذا كان البعض من الشخصيات فضل التزام الصمت فإن البعض الآخر اختار البيانات السياسية للتعبير عن نفسه، والفئة الثالثة أمثال سيد أحمد غزالي فقد عاد إلينا عبر "الشروق" اليوم ليس ك..»تقني سام« وإنما كمفكر كبير. فالذي كان يجر أحمد بن بلة معه بالغربالجزائري عندما كان رئيس حكومة، والذي قسم »الفيس« جهويا، والذي اتهم المعارضة بالتزوير عام 1991، ها هو يتحول إلى »بطل قومي« فهو الذي خطط لسياسة الراحل بومدين، وهو الذي أعاد الاعتبار للجزائر. ولو سأله محاوره: »لماذا رفضت فرنسا اعتمادك سفيرا بعد طردك من الحكومة« لأجاب بالنفي، ولو سئل الرئيس كافي عن »سر الهاتف« الذي جعله يعتمد سفيرا لدى فرنسا لربما أدركنا سر البطولات.
أما أمثال سعيد سعدي فقد غيروا »الاتجاه« فبعد أن لفظهم سركوزي، فها هم يبحثون عن موقع لهم في دول أخرى ليدخلوا »أرانب مع الرئيس بوتفليقة« في أفريل 2009 أثناء الانتخابات الرئاسية القادمة.صار همّ الوزراء هو تبادل التهم و»الشتم« عبر الصحف، واختفت أصوات الأحزاب الفسيفسائية، لم تعد في الجزائر تيارات سياسية، فالأحزاب الإسلامية لم يبق منها غير »حمس«، وأبو جرة سلطاني يصارع تيارا لا يختلف عن التيار الذي سرق الإصلاح من الشيخ عبد الله جاب الله، والتيار الوطني صار مجرد أصوات ترتفع أحيانا على لسان عبد الرزاق بوحارة في مجلس الأمة، وأحيانا عبر مجالس عبر القادر حجار، وعبد الرحمن بلعياط، وبقايا مناضلي جبهة التحرير.أحاديث الكواليس تكشف عن مفهوم خاطئ للسلطة، وهي اختصارها في الرئيس وليس في من يحيط به. أعتقد أن الرئيس لا يدرك ما يجري في الشارع، ولا يملك المعطيات الكافية حول »الإساءة« إلى شخصه ممن يفتعلون المساندة، وممن يساندونه ب »دافع الجهوية والمحسوبية والانتهازية والوصولية«.
لو سأل الرئيس قادة أحزاب »الائتلاف الحكومي« ماذا يساندون في برنامجه لأجابوه »أنت« ولو سألهم حول بقاء »التحالف الرئاسي« قائما، لأجابوه »حتى نعيد ترشيحك للرئاسيات القادمة« ولو سألهم عن »البرنامج المشترك بينهم لقالوا له »أنت«.ما أحوجنا إلى أحزاب تدافع عن برامجها وتستميت من أجل تطبيقها، وليس إلى قيادات همّها الوحيد أن تنال »رضا الرئيس« أو »واحدا من حاشيته«، أكاد أُجزم أن من يلتفون حول »المساندة« سيلتفون بعد رحيله حول »المحاكمة«، فالذين ساندوا »سياسة الاندماج« مع فرنسا هم الذين صاروا فاعلين في الحكومات المؤقتة للثورة، والذين عارضوا سياسة أحمد بن بلة هم الذين عارضوا سياسة محمد بوخروبة، وهم الذين يقفون اليوم لدعم بوتفليقة.أيعقل من كان يدافع عن الحزب الواحد وعن الاشتراكية يتحول - بن عشية وضحاها - إلى مدافع عن التعددية والليبرالية؟أيعقل من كان يدافع عن الديمقراطية، خلال الحزب الواحد، يتحول إلى مدافع مستميت عن »الحزب الواحد« و»الشخص الأوحد«.من يستمع إلى أحاديث الكواليس بين من ينتمون إلى التيار الوطني أو الإسلامي أو الديمقراطي يخرج بخلاصة واحدة أنهم جميعا يؤمنون ب »المعجزة« وينتظرون أن يفرج الله كربتهم.
ولا أحد يفكر في »البديل«، فالكل منشغل ب »تعديل الدستور« و»العهدة الثالثة« ولا أحد يفكر في »هذا البلد اليتيم« الذي اسمه »بلد المليون ونصف المليون شهيد« وهو الجزائر ومستقبل أبنائه.يظل الجديد في أحاديث الرئيس هو »مرض الرئيس« وقد أشار بوتفليقة إلى ذلك في حديثه الصحفي مع وكالة الأنباء الإنجليزية (رويترز) مع مطلع هذا الشهر.
الاستفتاء: الخوف من اللاخوف!
بالرغم من أن الدستور تم تغييره جوهريا، حسب المقربين من الرئيس، وأنه منذ عدته الثانية بدأ العمل به ميدانيا، إلا أن الكثير ينصحون بعدم اللجوء إلى الاستفتاء حول الدستور الجديد، باعتبار أن »القبائل سيقاطعون الاستفتاء، لأن الأمازيغية بقيت »لغة وطنية« في النسخة الجديدة.ويرى البعض أن ما يجري في المنطقة القبائلية سببه ما تمّ تسريبه حول النسخة الجديدة من الدستور، مما جعل الانفصاليين يلجؤون إلى »مطالبة ساركوزي« بدعمهم في المطالبة ب (الحكم الذاتي)، وأن »الضوضاء« حول التنصير هدفها كسب أمريكا والغرب للدفاع عن المنطقة.ومادامت أمريكا منشغلة بالانتخابات ومشكلة الشرق الأوسط والعراق وأفغانستان وإيران وحزب الله وحماس، فإن اهتمامها بما يجري في الجزائر لا يشكل خوفا على السلطة القائمة، بل إنها يسهل مهمتها في اتخاذ قرارات جريئة، وإجراء استفتاء على النسخة الجديدة دون أي رد فعل أمريكي أو غربي.أما دعاة تغيير المادة 74 من الدستور عبر البرلمان بغرفيته فهم الذين يريدون »توريط الرئيس« بحيث يبقي على نظام الحكم في صالحهم، ويتحول إلى مجرد سلطة لا يملك السلطة.
لا يوجد تيار في السلطة أو لدى أصحاب القرار يدافع عن »النظام البرلماني«، وإنما الكل إلى جانب الرئيس من أجل تشكيل نظام رئاسي يتقاطع مع النظام الأمريكي، ولا يتخلى عن »النظام الفرنسي«. ويبدو أن اللجنة التي أشرفت على صياغة النسخة الجديدة من بقايا »الثقافة الفرنسية التقليدية« في الجزائر.والتخوفات هو أن تكون الترجمة ضعيفة فتنعكس على الدكتور سلبا.الاعتقاد السائد عندي أن أصحاب القرار ينتظرون من الرئيس الإقدام على تحرير »الأراضي الفلاحية« و»العقار« حتى يتقاسموا »أملاك الدولة« بدءا من الإقامات الرسمية وبوشاوي وانتهاء بالأراضي التي تم شراؤها ب (الدينار الرمزي).
ولا أعتقد أن منح هذا الامتياز لأصحاب القرار سيسهل مهمة الرئيس في الاستفتاء على الدستور الجديد أو دعمه لعهدة ثالثة، ذلك أن أصحاب المال إذا تحرروا من »سلطة الرئيس« وهيمنة الدولة على »العقار« فإنهم سيأتون بالرئيس الذي يكون واحدا منهم، باعتبار أنه لا يوجد »تيار وطني قوي« يمكنه أن يسد الطرق أمام »أصحاب المال«، فاللص الجزائري يرتدي رداء المستثمر لينهب الشعب و»فضيحة الخليفة« شاهدة على ذلك.ويبدو أن المشكلة الأكبر هي كيف يمكن الاستثمار في دولة تحكمها قوانين ضد الاستثمار.وحتى لا أكون مبالغا أتساءل: مَن مِن المستثمرين العرب أخذ »قطعة الأرض« وبنى عليها مشروعه. ما أعرفه شخصيا أن هناك البعض من المستثمرين يعرضون اليوم مشاريعهم الاستثمارية للبيع، وهذا دليل على فساد السلطة وعدم مراقبتها للمشاريع وتنفيذها. وللحديث بقية.