عن أي انتصار يتحدثون؟
أكرم البني
كاتب سوري
نجاح القوات الروسية في تحقيق تقدم عسكري بشرق أوكرانيا، وتحديداً في إقليم دونباس المتنازع عليه منذ سنوات... الادعاء بفشل العقوبات الاقتصادية على موسكو، والتغني بارتفاع قيمة صرف «الروبل» جراء قرار روسيا تسديد ثمن الغاز بعملتها من قِبل ما اعتبرتهم دولاً غير صديقة... ما يثار عن تنامي قلق الاتحاد الأوروبي من استنزاف موارده في مجال الطاقة، وما تتكبده مجتمعاته من ارتفاع الأسعار وأعباء استقبال ملايين اللاجئين الأوكرانيين... كل ما سبق شكّل مرتكزات عند البعض للقول بانتصار قيادة الكرملين في حربها على أوكرانيا.
بداية، ما دامت الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى، فمن الخطأ تبسيط مفهومي النصر والهزيمة بصورة التراجع والتقدم العسكريين، أو الانجرار لتوظيفهما تبعاً للرغبات والأمنيات، وتالياً التهرب من الإجابة عن سؤال، هل حققت الحرب الأهداف السياسية التي خيضت من أجلها، أم لا؟
الصورة تتحدث عن نفسها، وأي نظرة متأنية ومقارنة موضوعية بين المشهد قبل حرب أوكرانيا وبعدها، يكشف لكل ذي عين، أين كانت أهداف قيادة الكرملين، وأين صارت، وخاصة هدفها المعلن بإطاحة سلطة كييف التي وصفتها بالنازية، وإعادة أوكرانيا إلى «الحظيرة السوفياتية». وأيضاً، كيف عجزت خطط موسكو الحربية، وما تمتلكه من أصناف الأسلحة، عن حسم المعركة خلال أيام معدودة كما كانت تأمل، وصارت تخوض فيما يشبه المستنقع الدامي، متكبدة خسائر بشرية ومادية فادحة، اللهم إلا إذا كان ثمة من يصدق بأن قادة الكرملين شنوا الحرب تلبية فقط لاستغاثة أنصارهم في إقليمي دونيتسك ولوغانسك!
صحيح أن القوات الروسية حققت تقدماً في بعض مناطق شرق أوكرانيا، لكن تلك الآلة العسكرية المفترض أنها ثاني أقوى جيش في العالم هي نفسها التي أخفقت في معركة العاصمة كييف وغيرها من المدن الأوكرانية، وسحبت قواتها من شمال أوكرانيا، وهي نفسها التي خسرت مؤخراً معركة خاركيف، ثاني أكبر مدن أوكرانيا، واضطرت إلى العودة إلى داخل الأراضي الروسية، فهل ثمة انتصار يمكن التحدث عنه أمام ذاك العجز العسكري، اللهم إلا إذا كان يقصد بالانتصار ما خلفته قوة تدميرية هائلة من موت وخراب في أهم المدن والمناطق الأوكرانية!
من جهة أخرى، إذا كان أحد أهداف حرب روسيا على أوكرانيا هو الإمعان في تفكيك الحلف الأطلسي وإبعاد خطر تمدده بالقرب من حدودها، فإن النتائج تقول إن قيادة الكرملين لم تنجح في تحقيق هذا الهدف، بل ما حصل هو العكس تماماً، فقد أعادت تلك الحرب اللحمة لصفوف الناتو، وخلقت أيضاً مستوى غير مسبوق من التضامن الدولي معه، عدا قرار السويد وفنلندا الانضمام إليه، وهو تطور يحمل في طياته مخاطر أشد وطأة على أمن موسكو وموقعها الأوروبي، خاصة أن فنلندا تمتلك أطول شريط حدودي بري مع روسيا.
ليس سهلاً على العقل تصور تداعيات الحرب الأوكرانية على أوروبا بأنه انتصار لموسكو، حين تغدو الدول الأوروبية خائفة ومتحسبة من جارها الروسي بعد أن صادقته واستبعدت احتمال نشوب حرب معه، في تعويل على جديد بنيته السياسية وتطوير التبادل التجاري معه، أو حين تتجه جدياً للتفكير في واجبات عسكرية تجاهه كانت غافلة عنها، أوضحها غزارة الدعم العسكري للأوكرانيين، وما يثار عن توجّه لبناء نظام أمني أوروبي ناجع، أوضح نذره قرار ألمانيا بزيادة الإنفاق العسكري الدفاعي إلى 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ووضع خطط وبرامج أوروبية مشتركة لتحديث الترسانة الاستراتيجية من قاذفات وصواريخ وغواصات قادرة على حمل رؤوس نووية، رداً على التهديدات المتكررة لأكثر من مسؤول روسي باللجوء إلى السلاح النووي.
إذا كان ثمة أضرار بدأ يتكبدها الغرب جراء العقوبات الاقتصادية على روسيا، بعد شراكة وتعاون اقتصاديين داما لأكثر من 3 عقود، ما قد ينعكس على مستوى الرفاهية التي كانت تعيشها بعض المجتمعات الغربية، فإن النتائج الطويلة الأمد لهذه الحرب ستكون مكلفة وكارثية على الاقتصاد الروسي، لجهة عزل روسيا عن دوائر التفاعل الاقتصادي العالمي، أو بحرمانها من امتياز الدولة الأَوْلى بالرعاية، الممنوح بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية، بما في ذلك حظر إمدادها بالمكملات الإلكترونية التي تستخدمها الشركات الروسية لإنتاج كثير من السلع والمواد، بما في ذلك المنتجات العسكرية.
نعترف بأن روسيا لا تزال قادرة على الصمود مالياً بسبب امتلاكها ورقة النفط والغاز حتى اللحظة، لكن ألم تشجع هذه الحرب الدول الأوروبية للسعي جدياً من أجل الاستقلال عن موسكو في حاجتها لمصادر الطاقة، وتالياً على تغذية الاستثمار في إنتاج الطاقة البديلة والبحث عن عروض جديدة لاستجرار النفط والغاز، لنزع هذه الورقة من يد روسيا في أسرع وقت ممكن، وما يزيد الطين بلة ما يشاع من تحضيرات لتمرير تشريعات أميركية وأوروبية تتيح استخدام أموال الشخصيات الروسية التي صودرت، ليس فقط لتمويل الحرب في أوكرانيا وتحديث ترسانة حلف الناتو، وإنما أيضاً لتعويض الخسائر من ارتفاع أسعار الوقود.
والحال، ترجح أقل الاجتهادات الاقتصادية تشاؤماً أن العقوبات ضد روسيا يمكن أن تعود بها إلى ما كانت في العقد الأخير من القرن الفائت، بينما لن يساعدها الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز على تجاوز مشكلاتها الاقتصادية، في ظل تشديد المقاطعة والحصار عليها من قبل كبرى الشركات والمؤسسات المالية، كما لن يساعدها رهانها على دور إنقاذي للصين، لأن الأخيرة هي منافس قديم للمطامع الروسية وأثبتت غير مرة أنها أكثر حرصاً على قدراتها الذاتية، ومتحسبة جيداً من أن يفضي اصطفافها مع موسكو إلى القطع مع الغرب، وتهديد ما حققته من نفوذ عالمي.
هو «الانتصار» الذي كشف قدرات روسيا المتواضعة بعيداً عن المبالغات والأوهام، والذي فتح الباب اليوم كي يتجه العالم من جديد نحو مزيد من هيمنة المؤسسات الغربية... هو «الانتصار» الذي نهض في مواجهته، تنسيق عالمي غير مسبوق بين معظم المنظمات السياسية والمالية والأمنية والصحية والرياضية والفنية والإعلامية، لمحاصرة روسيا وعزلها، بما ذلك منظمات الأمم المتحدة، والأهم ذاك التضامن الأممي اللافت لتفعيل محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، بغرض محاسبة القوات الروسية على ما فعلته في أوكرانيا.
بداية، ما دامت الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى، فمن الخطأ تبسيط مفهومي النصر والهزيمة بصورة التراجع والتقدم العسكريين، أو الانجرار لتوظيفهما تبعاً للرغبات والأمنيات، وتالياً التهرب من الإجابة عن سؤال، هل حققت الحرب الأهداف السياسية التي خيضت من أجلها، أم لا؟
الصورة تتحدث عن نفسها، وأي نظرة متأنية ومقارنة موضوعية بين المشهد قبل حرب أوكرانيا وبعدها، يكشف لكل ذي عين، أين كانت أهداف قيادة الكرملين، وأين صارت، وخاصة هدفها المعلن بإطاحة سلطة كييف التي وصفتها بالنازية، وإعادة أوكرانيا إلى «الحظيرة السوفياتية». وأيضاً، كيف عجزت خطط موسكو الحربية، وما تمتلكه من أصناف الأسلحة، عن حسم المعركة خلال أيام معدودة كما كانت تأمل، وصارت تخوض فيما يشبه المستنقع الدامي، متكبدة خسائر بشرية ومادية فادحة، اللهم إلا إذا كان ثمة من يصدق بأن قادة الكرملين شنوا الحرب تلبية فقط لاستغاثة أنصارهم في إقليمي دونيتسك ولوغانسك!
صحيح أن القوات الروسية حققت تقدماً في بعض مناطق شرق أوكرانيا، لكن تلك الآلة العسكرية المفترض أنها ثاني أقوى جيش في العالم هي نفسها التي أخفقت في معركة العاصمة كييف وغيرها من المدن الأوكرانية، وسحبت قواتها من شمال أوكرانيا، وهي نفسها التي خسرت مؤخراً معركة خاركيف، ثاني أكبر مدن أوكرانيا، واضطرت إلى العودة إلى داخل الأراضي الروسية، فهل ثمة انتصار يمكن التحدث عنه أمام ذاك العجز العسكري، اللهم إلا إذا كان يقصد بالانتصار ما خلفته قوة تدميرية هائلة من موت وخراب في أهم المدن والمناطق الأوكرانية!
من جهة أخرى، إذا كان أحد أهداف حرب روسيا على أوكرانيا هو الإمعان في تفكيك الحلف الأطلسي وإبعاد خطر تمدده بالقرب من حدودها، فإن النتائج تقول إن قيادة الكرملين لم تنجح في تحقيق هذا الهدف، بل ما حصل هو العكس تماماً، فقد أعادت تلك الحرب اللحمة لصفوف الناتو، وخلقت أيضاً مستوى غير مسبوق من التضامن الدولي معه، عدا قرار السويد وفنلندا الانضمام إليه، وهو تطور يحمل في طياته مخاطر أشد وطأة على أمن موسكو وموقعها الأوروبي، خاصة أن فنلندا تمتلك أطول شريط حدودي بري مع روسيا.
ليس سهلاً على العقل تصور تداعيات الحرب الأوكرانية على أوروبا بأنه انتصار لموسكو، حين تغدو الدول الأوروبية خائفة ومتحسبة من جارها الروسي بعد أن صادقته واستبعدت احتمال نشوب حرب معه، في تعويل على جديد بنيته السياسية وتطوير التبادل التجاري معه، أو حين تتجه جدياً للتفكير في واجبات عسكرية تجاهه كانت غافلة عنها، أوضحها غزارة الدعم العسكري للأوكرانيين، وما يثار عن توجّه لبناء نظام أمني أوروبي ناجع، أوضح نذره قرار ألمانيا بزيادة الإنفاق العسكري الدفاعي إلى 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ووضع خطط وبرامج أوروبية مشتركة لتحديث الترسانة الاستراتيجية من قاذفات وصواريخ وغواصات قادرة على حمل رؤوس نووية، رداً على التهديدات المتكررة لأكثر من مسؤول روسي باللجوء إلى السلاح النووي.
إذا كان ثمة أضرار بدأ يتكبدها الغرب جراء العقوبات الاقتصادية على روسيا، بعد شراكة وتعاون اقتصاديين داما لأكثر من 3 عقود، ما قد ينعكس على مستوى الرفاهية التي كانت تعيشها بعض المجتمعات الغربية، فإن النتائج الطويلة الأمد لهذه الحرب ستكون مكلفة وكارثية على الاقتصاد الروسي، لجهة عزل روسيا عن دوائر التفاعل الاقتصادي العالمي، أو بحرمانها من امتياز الدولة الأَوْلى بالرعاية، الممنوح بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية، بما في ذلك حظر إمدادها بالمكملات الإلكترونية التي تستخدمها الشركات الروسية لإنتاج كثير من السلع والمواد، بما في ذلك المنتجات العسكرية.
نعترف بأن روسيا لا تزال قادرة على الصمود مالياً بسبب امتلاكها ورقة النفط والغاز حتى اللحظة، لكن ألم تشجع هذه الحرب الدول الأوروبية للسعي جدياً من أجل الاستقلال عن موسكو في حاجتها لمصادر الطاقة، وتالياً على تغذية الاستثمار في إنتاج الطاقة البديلة والبحث عن عروض جديدة لاستجرار النفط والغاز، لنزع هذه الورقة من يد روسيا في أسرع وقت ممكن، وما يزيد الطين بلة ما يشاع من تحضيرات لتمرير تشريعات أميركية وأوروبية تتيح استخدام أموال الشخصيات الروسية التي صودرت، ليس فقط لتمويل الحرب في أوكرانيا وتحديث ترسانة حلف الناتو، وإنما أيضاً لتعويض الخسائر من ارتفاع أسعار الوقود.
والحال، ترجح أقل الاجتهادات الاقتصادية تشاؤماً أن العقوبات ضد روسيا يمكن أن تعود بها إلى ما كانت في العقد الأخير من القرن الفائت، بينما لن يساعدها الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز على تجاوز مشكلاتها الاقتصادية، في ظل تشديد المقاطعة والحصار عليها من قبل كبرى الشركات والمؤسسات المالية، كما لن يساعدها رهانها على دور إنقاذي للصين، لأن الأخيرة هي منافس قديم للمطامع الروسية وأثبتت غير مرة أنها أكثر حرصاً على قدراتها الذاتية، ومتحسبة جيداً من أن يفضي اصطفافها مع موسكو إلى القطع مع الغرب، وتهديد ما حققته من نفوذ عالمي.
هو «الانتصار» الذي كشف قدرات روسيا المتواضعة بعيداً عن المبالغات والأوهام، والذي فتح الباب اليوم كي يتجه العالم من جديد نحو مزيد من هيمنة المؤسسات الغربية... هو «الانتصار» الذي نهض في مواجهته، تنسيق عالمي غير مسبوق بين معظم المنظمات السياسية والمالية والأمنية والصحية والرياضية والفنية والإعلامية، لمحاصرة روسيا وعزلها، بما ذلك منظمات الأمم المتحدة، والأهم ذاك التضامن الأممي اللافت لتفعيل محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، بغرض محاسبة القوات الروسية على ما فعلته في أوكرانيا.