جدوى الإصرار على إحياء الاتفاق النووي!
أمام تكرار الاعتراف النقدي لغير مسؤول أميركي وأوروبي، بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، بخطأ ارتُكب في الرهان على استدراج موسكو لفتح صفحة جديدة، عبر تشجيع الانفتاح عليها وتقديم حوافز مادية ومزايا اقتصادية، تبدل مناخ التوجس والعداء نحو التعاون والشراكة، بما يضمن أمناً واستقراراً مديدين للقارة الأوروبية، أمام ذلك، لا يمكن للمرء إلا أن يقف متسائلاً عن دوافع الإلحاح اللافت للدول الغربية في خوض الرهان ذاته مع طهران وملفها النووي، والتعويل على استمالتها عبر الاستعداد لرفع العقوبات، وتقديم تنازلات، أسوأها التراجع عن تصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية، بأمل تغيير سلوكها من دولة معادية إلى دولة متعاونة وربما صديقة.
فهل يفتح استرضاء طهران وتلبية اشتراطاتها لتوقيع الاتفاق النووي الباب أمام أفق جديد في الشرق الأوسط، عنوانه الاستقرار والسلم والأمن، بما يزيل التوتر ويبعد شبح الاقتتال عن منطقة حبلى بنزاعات متخلفة وقديمة دفعت الشعوب العربية ثمنها دماً وتراجعاً تنموياً واقتصادياً، أم سيكون القادم على العكس تماماً، حين تستقوي طهران بمردود هذا الاتفاق، لتعزيز غطرستها وتوسيع نفوذها وتصدير «ثورتها الإسلاموية» متوسلةً مزيداً من أساليب القهر والعنف، ومطمئنةً لحياد الموقف الغربي ولأن ما تقوم به لن تعترضه مساءلة أو حصار؟
إذا كان أمراً مفسَّراً إصرارُ الدول الغربية على إحياء الاتفاق النووي ربطاً ربما بحاجتها لتحرير النفط الإيراني، مع سعيها للاستغناء عن النفط الروسي، وربما بوفرة المغانم التي ستجنيها الشركات الأميركية والأوروبية من السوق الإيرانية بعد رفع العقوبات الاقتصادية، وإذا كان أمراً مفهوماً إقران المفاوضات الجارية في فيينا والسعي لإنجاحها، بحسابات استراتيجية غرضها فك ارتباط إيران بروسيا والصين على طريق ضمان تعاونها في مواجهة تمدد الأولى عسكرياً والثانية اقتصادياً، فما ليس مفسراً أو مفهوماً هو عدم إدراك الغرب أن معالجة أزمة الملف النووي، بالطريقة التي تتم، سوف تفتح الباب أمام اشتداد أزمات ومعضلات من نوع آخر، وتعمّق دخول المنطقة في حالة الفوضى وعدم الاستقرار وربما في حروب عبثية ومكلفة، يحدوها تنامي حنين حكام طهران لماضٍ إمبراطوري، بدأت رائحته تفوح من خلال تصريحاتهم المستفزة والمستعلية.
واستدراكاً، ماذا يمكن أن يقال لشعوب عربية وإقليمية، سوف تتعرض أكثر فأكثر لأضرار متنوعة وأذيّات جراء تداعيات مهادنة النهج التوسعي الإيراني وإزالة الحرس الثوري من قائمة الإرهاب؟
أحقاً لا تدرك الدول الغربية، بعد تجربتها الطويلة مع حكام طهران، أن إحياء الاتفاق النووي ورفع العقوبات وتحرير الأصول المالية، سوف يمنحهم إمكانيات أكبر، لتطوير ترسانتهم العسكرية وتسعير دعمهم لمريديهم وأعوانهم وتوسيع هوامش تدخلهم ونفوذهم في عدد من الساحات العربية؟ ثم، هل أخذت هذه الدول في الحسبان تأثير إذعانها لإحياء الاتفاق النووي على الشعب الإيراني المنكوب وعلى المعادلة السياسية الداخلية وما يرتبط بها من توازنات؟ ألن يعزز الاتفاق دور التيار المتشدد ومراكز القوة التوسعية على حساب ما تسمى الجماعات الإصلاحية، ما دام الأول يدّعي أنه حقق انتصاراً وفرض شروطه؟ بل ألن يغدو ذاك التيار أكثر جرأة واستعداداً لتشديد القبضة القمعية وللتوغل أكثر في انتهاكات حقوق الإنسان، خصوصاً حقوق الأقليات وحقوق المرأة وحرية الرأي والتعبير وغيرها؟ وتالياً، كيف يمكن النظر من قناة قيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان التي لطالما روَّج الغرب لها، إلى ما يخلّفه العنف الميليشياوي الإيراني المتمادي من انتهاكات مشينة في إيران نفسها وفي غير بلد عربي؟
والحال، أنه مثلما تتخوف الدول الغربية من المشروع الذي تتبناه قيادة الكرملين لمد نفوذها في أوروبا، من جورجيا إلى ضم جزيرة القرم إلى أوكرانيا، يُفترض أنها ليست غافلة عن حقيقة الأهداف التوسيعية لحكام طهران في المنطقة وعن أدوات التخريب التي يستمرون في إعدادها لفرض نفوذهم، بل يُفترض أنها الأقدر على وعي ماهية هؤلاء الحكام ونظامهم العصبوي المغلق، وما يمثلونه من آيديولوجية لها مخاطر، وإدراك عمق مراميهم الأنانية والتوسعية وأنهم لن يتراجعوا عنها مهما كانت الاشتراطات الغربية في الملف النووي أو للحد من دورهم الإقليمي، بدليل مثابرتهم على خلق أدوات وميليشيات موالية حتى بعد إبرام الاتفاق القديم عام 2015، ثم ما راكموه من خبرات ووسائط مكنتهم بسرعة لافتة من رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى حدود مقلقة بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق، كأنهم بذلك يؤكدون، على الملأ، أن ما يهمهم هو رفع العقوبات وربح الوقت للمضي سراً في مخططهم، ليضعوا العالم أمام واقع جديد عنوانه امتلاكهم السلاح النووي وسلسلة عصية من النفوذ الإقليمي!
الدرس يتكرر؛ لن تغيِّر الحوافز والتنازلات مطامع الأنظمة الاستبدادية التوسعية، وتالياً لن يُفضي إحياء الاتفاق النووي إلى تبديل سياسات طهران وسلوكها، ونظرة سريعة إلى ما يجري الآن في بعض بلدان المنطقة؛ إلى لبنان حيث تجدد الانتخابات العتيدة وبقوة السلاح سيطرة «حزب الله» على الدولة ومؤسساتها، إلى التدخلات التخريبية السافرة للميليشيا الإيرانية في العراق، إلى توسيع انتشار «حزب الله» والحرس الثوري في سوريا، إلى الحرب المعلنة لإجهاض مشاريع التسوية في اليمن... نظرة سريعة، يمكنها أن تكشف دون عناء، خيطاً واضحاً ينظم النشاطات التوسعية لحكام طهران ودورهم في زعزعة استقرار المنطقة وأمنها، وكيف يتوسلون شحذ التوتر المذهبي والطائفي وتسعير الحروب والنزاعات الأهلية لفرض مشروعهم الإسلاموي، بعد أن ثبتت ضحالته ووصل لطريق مسدودة على صعيد تنفيذ برامج تنموية تنهض بالإنسان مادياً وحقوقياً!
أخيراً، هي مفارقة لافتة، أن يرى الإنسان العربي البسيط هذا الاندفاع الغربي لدعم أوكرانيا في مواجهة التدخل العسكري الروسي بينما يغضّ النظر عن التدخلات الإيرانية في عدد من بلدان المنطقة، وهي مفارقة لافتة أيضاً أن يستشعر الإنسان العربي البسيط، مبكراً وقبل صنّاع السياسات، الطمع الإمبراطوري لحكام طهران وماهية أساليبهم البغيضة لإجبار العالم على الاعتراف بمكانة ونفوذ إقليميين يتجاوزان حقوقهم ووزنهم، متوسلين، مرة أولى، دأبهم على امتلاك السلاح النووي وغيره من الأسلحة المحرمة دولياً، ومرة ثانية، نهجاً تدخلياً سافراً عبر أذرع وميليشيات إرهابية كما الحال، في العراق واليمن وسوريا ولبنان، لتخريب مجتمعاتها وتسهيل السيطرة عليها.