المقدمة:
كيف يمكننا اليوم في ظل عالم المتغيرات، عالم الحياة الرقمية والتسوق الإلكتروني الذي تغذيه خطابات العولمة، والتكنولوجيات الجديدة، من أن نتوقف ونقرأ صورة أو نفهمها وهي تحاصرنا في كل مكان، مخاطبة غرائزنا قبل عقولنا، تغرينا فنغتر لتسلب إرادتنا لنقتنع بشراء منتوجاتها.
إنها حضارة الصورة تعود من بعيد، لتزحزح حضارة الكتابة شيئًا فشيئًا، فقد آن الأوان لنكون واعون بصريا، وثقافيا بالصورة، قصد الانخراط في حضارتها وفهم لغتها المتكثرة.
في عالم من الصور والبصريات الافتراضية، لهذا لابد من أن نستعد من الآن، عن على مستوى قراءة الصور وتحليلها، وإن على مستوى تأويلها وتداولها، فالصورة نحيا بها، ما فقهناها قراءة وتأويلاً.
لهذا جاء بحثنا في سيميائيات الصورة، باحثا عن معناها ورهاناتها المعرفية والدلالية، وكيف تلقيها داخل مجتمع الصورة، واضعين لها آليات قرائية تمكننا من فهم طبيعتها، وتحديد أنواعها، وتحليل مكوناتها وتسنين لغتها، خاصة وأن خطاب الصورة تمارس علينا إغراءاتها وخطابها الإقناعي لتسويق منتوجاتها، دون نسيان أفقها القابل للتأويل المفتوح، لهذا يقول "ريجيس دوبري" المتخصص في الصورة "إن الصورة علامة تمثل خاصية كونها قابلة للتأويل، فهي تنفتح على جميع الأعين التي تنظر فيها وإليها، إذ تمنحنا إمكانية الحديث عنها، وتقديم تأويلات متعددة ومختلفة حولها "فقراءة الصورة وتأويلها من البنيات المؤسسة لثقافة الصورة في العالم والوطن العربي على وجه الخصوص.
الفصل الأول: ماهية الصورة:
المبحث الأول: تعريف الصورة:
الصورة في أصلها اللاتيني مشتقة من كلمة (Imago)، المقصود منها كل تمثيل مصور مرتبط بالموضوع الممثل عن طريق التشابه المنظوري، فأصلها الاشتقاقي يحيل على فكرة النسخ والمشابهة والتمثيل، وهي إما أن تكون ثنائية الأبعاد الرسم والتصوير، أو ثلاثية الأبعاد مثل النقوش البارزة والتماثيل.
كما أنها في أصولها الإغريقية واللاتينية ترادف أيضا كلمة إيقون والتي يراد منها أيضا المشابهة والمماثلة، وعليها بنى "بيرس" سرح نظريته السيميائية، ليعتمدها اتجاهه كمصطلح مركزي لمقاربة الصورة.
مصطلح التمثيل/التمثل (représentation) وهو مفهوم مركزي للصورة حيث نعطي لكل ما نراه صورة حتى نتمثله على وجه لائق، وهنا يدخل مفهوم الرمز ككاشف لحقيقة الصورة التي تتكلمه منذ البدء والتاريخ.
فالصورة في عرف الحكماء وغيرهم تطلق على معان منها كيفية تحصل العقل الذي يعتبر آلة ومرآة لمشاهدة الصورة، وهي الشبح والمثال الشبيه بالمتخيل في المرآة، ومنها ما يتميز به الشيء مطلقا سواء كان في الخارج، ويسمى صورة خارجية، أو في الذهن ويسمى صورة ذهنية.
أما التعريف الاصطلاحي للصورة في المعاجم السيميائية المتخصصة فهي تعتبر "السيميائيات البصرية كوحدة متمظهرة قابلة للتحلي، وهي عبارة عن رسالة متكونة من علامات إيقونية، لهذا فسيميولوجيا الصورة تجعل من نظرية التواصل مرجعها.
لتتطور الصورة بتطور الاتصال والإعلام والتكنولوجيات الرقمية، لتصبح صورا ذات أنواع وأصناف عديدة.
المبحث الثاني: أنواع الصور:
في الدراسة السيميولوجية يمكن تمييز أربعة أنواع من الصور:
1- الصور Images:
وتشمل صور الأشخاص أو صور الأصوات كأن يكون وقع الأقدام وصرير الأبواب وهي تفتح في لقطة ما أو صوت سيارة وهي أهبة انطلاق.
2- صورة الصورة Image des images:
هذا النوع من الصور يعتمد على إعادة نقل المعطيات أو إعادة إنتاجها Reproduction d’une reproduction ويدخل ضمن هذا الإطار صور للرسومات وصور التماثيل.
3- صورة اللاصورة Image de non images:
يدرج في هذا المجال حروف الأسماء المجسدة لمرجع ذات دلالة يفترض جون كينيدي jhon F.Kennedy المكون من فونيمات Phonémes فهذه الفونيمات لا تشمل صورة المرجع الأساسي لأنها تفتقد إلى علاقة التشابه معه، وأما توحي إليه بطبيعة إيقونية فقط.
4- لا صورة الصورة des non images des images:
ومثل هذا النوع من الصور تمثله صيغة إعادة الإنتاج الخطي لمؤشرات صوتية وهي صبغة غالبا ما نصادفها في تعليقات الأشرطة المرسومة مثلا Splash, Plouf أو في حوار الأفلام وبعبارة فإن لا صورة الصورة هي ما يعرف في علم الدلائل بالمصادة Anomostopée.
المبحث الثالث: الانتقال من السيميائيات العامة إلى سيميائيات الصورة:
إن السيميائيات كما تنبأ إليها "دوسوسور" وشعبها "تشارلس بيرس"، قد اشتغلت على مجالات عدة ليصعب حصرها، وهذا راجع إما لقصور الإجراءات التحليلية لدى الباحث، وإما لعدم اكتمال جهازه المفاهيمي والمصطلحي لمثل هذه المقاربات.
وهذا مما حذا ببعض الباحثين في الشأن السيميائي من أن يوسعوا البحث في مجال البصريات، قصد الإجابة على أسئلتها المهمة: كيف نتواصل بصريا؟ وكيف نقرأ رسالة بصرية؟ وكيف نكون ثقافة بصرية؟ وكل هذه الأسئلة وأسئلة أخرى تصدى لها "رولان بارث" بالإجابة في بحثه عن عناصر السيميوجيات التي طبق بعضا منها على الصورة باستعادته للطروحات والمقولات اللسانية، وما جاء به "بيرس" في مفهومه "للإيقون" بتفريعاته اللامتناهية، ليبحث "بارث" عن بلاغة للصورة، وكيف يأتي المعنى إليها؟ وأين ينتهي؟ إذا كان ينتهي فماذا يوجد وراءه؟.
إلا أن هذا الانتقال من السيميائيات العامة إلى سيميائيات الصورة، لم يكن بهذه السهولة، فكيف نقارب ما هو لساني بما هو بصري/إيقوني؟
علما بأن اللغة الطبيعية تختلف من حيث خصائصها وتوظيفاتها عن اللغة البصرية، وهذا ما أدى إلى أن يجدوا حلا لهذا الإشكال الجوهري والدقيق لمشروعية دراسة سيميائيات الصورة.
إذ نجد "كيستيان ميتز" أحد أكبر المشتغلين على سيميائيات السينما، يقول في إحدى مقالاته: "عن اللغات البصرية تقيم مع باقي اللغات علاقات نسقية متعددة ومعقدة، ولا أهمية لإقامة تعارض ما بين الخطابين اللغوي والبصري، كقطبين كبيرين يحظى كل واحد منهما بالتجانس والتماسك في غياب أي رابط بينهما، وهذا نابع من خصوصية كل خطاب وكل رسالة:
- فالرسالة اللسانية تظل حبيسة قواعد النحو والتداول، أي خطية خلاف الرسالة البصرية التي لا تخضع لقواعد تركيبية صارمة، إضافة إلى أن عناصرها تدرك بشكل متزامن.
- الرسالة اللسانية تقبل التفكيك إلى عناصر يقوم المتلقي بإعادة تركيبها ليحصل المعني، في حين الرسالة البصرية تركيبية لا تقبل التقطيع إلى عناصر صغرى مستقلة لأنها ترابطية تختزن في بنائها دلالات لا تتجزأ.
- الرسالة اللسانية تقوم على الخاصية الاعتباطية، أما الرسالة البصرية فهي قائمة على المماثلة والمشابهة.
وقد فصل في هذه النقاط "رومان غوبارن" ليجد أن التعايش بين الصورة واللغة تعايش ضارب بجذوره عمق التاريخ، فمنذ ظهور الكتاب صار الارتباط بين الصورة والنص عاديا، لأنه "ليس هناك في الحقيقة أي معنى أن نكون (ضد ) اللغة أو معها لا (مع) الصورة أو ضدها، إن محاولاتنا تصدر عن قناعة بأن سيميولوجيا الصورة ستشغل جنبا على جنب مع سيميولوجيا الموضوعات اللسانية وأحيانًا تتقاطع معها كما يرى "ك.ميتز".
* أينما نوجه وجوهنا توجد صورة... تنتظرنا*
فقد أصبحنا اليوم نعيش في مجتمع الصورة، فهي رفيقنا ومرافقنا، فأينما نولي وجهنا فهناك صورة تنظر إليها في الجرائد والمجلات، أو تنتظرنا في المكتب أو المنزل، أو في الشوارع والطرقات، أو تطالعنا في التلفزيون أو عبر هواتفنا الجوالة، فالصورة بحق نحيا بها وتحيا بنا، ولكن لابد من معرفة حياتها وموتها (بتعبير دوبري) وهذا لا يكون إلا بمعرفة حدودها ومحدداتها فلكل شيء بدء ومنتهى، والصورة دائما في خلق جديد. فالناظر لسيميائيات الصورة يجدها قد تمفصلت على نفسها لمجالات بحثية كيرة، وهذا لتعدد وسائل الاتصال البصري على وجه الخصوص، فمن سيميائيات الرسوم المتحركة، إلى سيميائيات السينما، إلى سيميائيات الفيديو...، كل هذه اللغات البصرية التي نواجهها وتواجهنا يوميا تحمل حدودا ومحددات عن أصل بدئها ونشأتها، فلابد من معرفة هذه معنى الصورة وطبيعتها التي تعمل بين الخفاء والتجلي، والغياب والحضور.